الأحد 5 أكتوبر 2025 - 20:26
قيادة الأمة في عصر الغيبة الكبرى

وكالة الحوزة - تشكل مسألة القيادة والولاية في عصر غيبة الإمام المعصوم (عجل الله فرجه) أحد أعمق المباحث الفقهية والعقائدية إلحاحاً. فمع انطواء عصر الحضور المباشر، برز سؤال مصيري: من ينوب عن الإمام في قيادة الأمة وولاية أمرها؟ وما هي حدود هذه النيابة واختصاصاتها؟ يتناول البحث القادم جذور الإجابة في نظرية "ولاية الفقيه"، من خلال استعراض أسسها النقلية والعقلية وتجلياتها العملية.

وكالة أنباء الحوزة - يُعدّ موضوع الولاية والإشراف على شؤون المسلمين من أهم القضايا وأكثرها جذرية في عصر الغيبة.

ومن الثابت أن قضية ولاية الأمة وقيادتها كانت مطروحة منذ فجر الإسلام، حيث تولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) – إضافة إلى دورهم في تبليغ الدين والشريعة – مهام الإمامة والولاية على الأمة، فكانت طاعتهم واجبة على جميع المسلمين في شؤونهم كلها، فرديةً واجتماعية، وهي حقيقة لا غُبار عليها عند الشيعة.

فمن يتولى، إذن، قيادة الأمة وإمامتها بعد غيبة الإمام الثاني عشر (عجل الله فرجه)؟ وهل هناك من يمتلك ولاية عليها؟ وما حدود هذه الولاية؟

في الإجابة على هذا السؤال المحوري، برز على مدى العصور مفهوم "ولاية الفقيه".

مفهوم ولاية الفقيه

مصطلح "الولاية" مشتق من "وَلِيَ"، ويعني في أصله القرب المصحوب بعلاقة (1)، لذا يُستعمل في النصرة والموالاة. وأبرز معانيه – وهو المقصود هنا – هو القيام بأمر الآخرين والتصدي لشؤونهم.

أما "الفقيه" فهو من اشتقاق "فقه" بمعنى الفهم، ويُطلق غالباً على العالم بأحكام الدين وشريعته (2)، وهو من يمتلك المعرفة العميقة بعلوم الإسلام، مما يؤهله لاستنباط الأحكام الشرعية في القضايا الفردية والاجتماعية من مصادرها.

الجذور التاريخية لنظرية ولاية الفقيه

يخطئ من يظن أن "ولاية الفقيه" نظرية مستحدثة لا جذور لها في الفقه والاجتهاد الإسلامي، وينسبها إلى فكر الإمام الخميني (رحمه الله) فحسب. فإن لهذه النظرية أصولاً راسخة في كلمات المعصومين (عليهم السلام)، حيث أوكلوا – استجابة للضرورات الدينية والاجتماعية – ولاية واختصاصات إلى الفقهاء.

ثم إنها ظلت مطروحة باستمرار في آراء فقهاء الإسلام الكبار طيلة تاريخه.

وإليك بعض الشواهد من أقوال علماء الشيعة:

  • الشيخ المفيد (ت 413 هـ): "وإذا عدم السلطان العادل (أي الإمام المعصوم) فيما ذكرناه من هذه الأبواب [أي أبواب الوصية) كان لفقهاء أهل الحق العدول من ذوي الرأي والعقل ‌والفضل‌ أن يتولوا ما تولاه السلطان فإن لم يتمكنوا من ذلك فلا تبعة عليهم فيه (3)."
  • الشيخ الطوسي من كبار فقهاء الشيعة المعروف بشيخ الطائفة (ت 460 هـ): "وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين، فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان الحق في ذلك. وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليه بنفوسهم. (4)"
  • المحقق الثاني، المشهور بالمحقق الكركي (ت 940 هـ): "اتفق أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) على أن الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى (صلوات اللّه وسلامه عليهم) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل. (5)"
  • الملا أحمد النراقي المعروف بالفاضل النراقي (ت 1244 هـ): "كلما كان للنبى والامام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضاً ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما. (6)"
  • آية الله محمد رضا الكُلبايكاني من كبار فقهاء العصر الحديث (ت 1414 هـ): " ... وبالجملة لا يبعد استفادة الولاية للفقيه الجامع للشرائط فيما يرتبط بالأمور العامة، وحفظ المجتمع والامة، وسياسة الرعية والملة... فعليه يُحكم بثبوت الولاية للفقيه فيما يرتبط بسياسة الاجتماع، وادارة المجتمع، إلا ما أخرجه الدليل. (7)"

هذه مجرد نماذج من أقوال فقهاء الشيعة عبر القرون المختلفة. وهناك المئات من النماذج الواضحة الأخرى التي تبيّن أن مسألة ولاية الفقيه كانت دوماً حاضرة في فكر علماء الشيعة وكلماتهم، ومقبولة لدى عمومهم.

ثم جاء الإمام الخميني (رحمه الله)، فبلور هذه النظرية ببصيرته النافدة وإدراكه الفذ لملابسات العصر وأطّرها بشكلها العملي، وأسّس النظام الإسلامي في إيران على أساسها، أي نفّذ مسألة ولاية الفقيه في الساحة الاجتماعية للمسلمين، وقدّمها كأكمل صورة للحكومة الدينية في زمن الغيبة.

الهوامش:

(1) مفردات الراغب، مادة «ولي».

(2) لسان العرب، ج13، مادة «فقه».

(3) المقنعة، ص675.

(4) نكت النهاية، ج2، ص17.

(5) رسائل المحقق الكركي، ج1، ص142.

(6) عوائد الأيام، ص187 و 188.

(7) الهداية إلى من له الولاية، ص 47.

وللحديث بقية ستأتي في الأجزاء التالية إن شاء الله.. والجدير بالذكر أن هذا الجزء مُقتبس من كتاب "نگین آفرینش" (جوهرة الخلق) مع بعض التعديلات.

لمراجعة المبحث باللغة الفارسية يرجى الضغظ هنا.

المحرر: أ. د

المصدر: وكالة أنباء الحوزة

سمات

تعليقك

You are replying to: .
captcha